عبد الله بن عمر
المثابر، الأوّاب
تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال: "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا وما بايعت صاحب فتنة ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"
وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب
أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه
من ذلك اليوم بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام
حرصه على السنة
وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبد الله بن عمر لكثيرة فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة
كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها
لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة
هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما
وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبد الله جالسا وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان
بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها
لكن عبد الله بن عمر لا يكاد يبلغ هذا المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم يذبحها، ثم يصلي ركعتين لله تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله
ولقد أثار فرط اتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر"
ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
"اللهم أبق عبد الله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره"
وبقوة هذا التحري لشديد الوثيق لخطى رسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا حرفا.
وقد قال معاصروه.. "لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبد الله بن عمر"
جاءه يوما رجل يستفتيه، فلما ألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا: " لا علم لي بما تسأل عنه"
وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
"سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"
كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتي
وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة
ورعه
دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره
وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كلا ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة
قاض يقضي بجهل، فهو في النار وقاض يقضي بهوى، فهو في النار وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر
واني لسائلك بالله أن تعفيني".. وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا
فضائله
لقد كان ابن عمر،أخا الليل، يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبد الله، ومناط غبطته وحبوره
ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه: "رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه
ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني.. فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل فيكثر"
ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله.. فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن
خشيته وبكاؤه
يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبد الله بن عمر هذه الآية:
(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..
فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
وجلس يوما بين اخوانه فقرا:
(ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم ميعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)
ثم مضى يردد الآية:
(..يوم يقوم الناس لرب العالمين)
ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه
جوده وكرمه
وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء، والمساكين والسائلبن..
يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا-
فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسألهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟
قالوا: بلى قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه
قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها. فقال: انه وهبها لفقير
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس: " يا معشر التجار
ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!! وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حي
يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق
أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له:
لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل
قال له ابن عمر: أرنيه اذن
ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟
قال صاحبه: لا .. انه قطن
وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهو يقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"
وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا وسأله ابن عمر: ما هذا؟
قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق
قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء؟؟
قال: يهضم الطعام.. فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما"
اعتزاله الفتن
يقول الحسن رضي الله عنه: " لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس قال: ان والله لئن استطعت، لا يراق بسببي محجمة من دم
قالوا: لتخرجن، أو لنقتلنكم على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"
وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى
ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر
لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم
قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان
قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم
وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها
حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"
فانصرف عنه مروان
وفاته
ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات
لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء المؤمن فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على
طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة
لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا
ووسط الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم
ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا: ( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)
بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون: ( كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)
وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير
وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب
كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين
المثابر، الأوّاب
تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال: "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا وما بايعت صاحب فتنة ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"
وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب
أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه
من ذلك اليوم بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام
حرصه على السنة
وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبد الله بن عمر لكثيرة فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة
كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها
لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة
هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما
وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبد الله جالسا وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان
بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها
لكن عبد الله بن عمر لا يكاد يبلغ هذا المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم يذبحها، ثم يصلي ركعتين لله تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله
ولقد أثار فرط اتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر"
ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
"اللهم أبق عبد الله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره"
وبقوة هذا التحري لشديد الوثيق لخطى رسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا حرفا.
وقد قال معاصروه.. "لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبد الله بن عمر"
جاءه يوما رجل يستفتيه، فلما ألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا: " لا علم لي بما تسأل عنه"
وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
"سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"
كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتي
وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة
ورعه
دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره
وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كلا ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة
قاض يقضي بجهل، فهو في النار وقاض يقضي بهوى، فهو في النار وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر
واني لسائلك بالله أن تعفيني".. وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا
فضائله
لقد كان ابن عمر،أخا الليل، يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبد الله، ومناط غبطته وحبوره
ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه: "رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه
ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني.. فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل فيكثر"
ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله.. فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن
خشيته وبكاؤه
يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبد الله بن عمر هذه الآية:
(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..
فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
وجلس يوما بين اخوانه فقرا:
(ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم ميعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)
ثم مضى يردد الآية:
(..يوم يقوم الناس لرب العالمين)
ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه
جوده وكرمه
وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء، والمساكين والسائلبن..
يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا-
فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسألهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟
قالوا: بلى قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه
قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها. فقال: انه وهبها لفقير
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس: " يا معشر التجار
ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!! وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حي
يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق
أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له:
لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل
قال له ابن عمر: أرنيه اذن
ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟
قال صاحبه: لا .. انه قطن
وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهو يقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"
وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا وسأله ابن عمر: ما هذا؟
قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق
قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء؟؟
قال: يهضم الطعام.. فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما"
اعتزاله الفتن
يقول الحسن رضي الله عنه: " لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس قال: ان والله لئن استطعت، لا يراق بسببي محجمة من دم
قالوا: لتخرجن، أو لنقتلنكم على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"
وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى
ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر
لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم
قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان
قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم
وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها
حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"
فانصرف عنه مروان
وفاته
ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات
لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء المؤمن فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على
طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة
لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا
ووسط الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم
ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا: ( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)
بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون: ( كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)
وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير
وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب
كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين